كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر يومئذ من عبدالله بن أبي فقال وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
فبكيت يومي ذلك فلا يرقا لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا لا أكتحل بنوم ولا يرقا لي دمع، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت على امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فَتَشَهَّدْ حين جلس ثم قال: «أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا.. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم- وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني برئية- والله يعلم أني برئية- لا تصدقوني ولئن اعترف لكم بأمر- والله يعلم أني منه بريئة- لتصدقني والله لا أجد لي ولكم مثلًا إلا قول أبي يوسف {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18].
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: «ابشري يا عائشة أما الله فقد برأك» فقالت أمي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي. وأنزل الله {إن الذين جاءوا بالإِفك عصبة منكم} العشر الآيات كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر: وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين} [النور: 22] إلى قوله: {رحيم} قال أبو بكر: والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا قالت عائشة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: «يا زينب ماذا عملت أو رأيت»؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرًا قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإِفك.
وأخرج البخاري والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة قالت: لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطيبا، فتشهد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أشيروا عليَّ في أناس أنبوا أهلي- وأيم الله- ما علمت على أهلي سوء، وأنبوهم بمن- والله- ما علمت عليه من سوء قط، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي»، فقام سعد بن معاذ فقال: ائذن لي يا رسول الله أن تضرب أعناقهم، وقام رجل من بني الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل فقال: كذبت أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شرقي المسجد وما علمت.
فلما كان مساء ذلك اليوم، خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح، فعثرت فقالت: تعس مسطح فقلت: أي أم تسبين ابنك؟ فسكتت ثم عثرت الثانية فقالت: تعس مسطح فقلت لها: أي أم تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة فقالت: تعس مسطح فانتهرتها فقالت: والله لم أسبه إلا فيك فقلت: في أي شأني؟! فقرأت لي الحديث. فقلت وقد كان هذا! قالت: نعم. والله.
فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلًا ولا كثيرًا، ووعكت فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني إلى بيت أبي، فأرسل معي الغلام، فدخلت الدار، فوجدت أم رومان في السفل وأبا بكر فوق البيت يقرأ. فقالت أمي: ما جاء بك يا بنية؟ فأخبرتها وذكرت لها الحديث، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني. فقالت: يا بنية خففي عليك الشأن، فإنه- والله- لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا حسدتها وقيل فيها.
قلت: وقد علم به أبي؟ قالت: نعم. قلت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. فاستعبرت، وبكيت، فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق بيت يقرأ، فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ قالت: بلغها الذي ذكر من شأنها ففاضت عيناه فقال: أقسمت عليك أي بنية إلا رجعت إلى بيتك، فرجعت.
ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عني خادمي فقالت: لا والله ما علمت عليها عيبًا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة، فتأكل خميرها أو عجينها، وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لهابه فقالت- سبحان الله- ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، فبلغ إلى ذلك الرجل الذي قيل له فقال- سبحان الله- والله ما كشفت كنف أنثى قط قالت: فقتل شهيدًا في سبيل الله قالت: وأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر، ثم دخل وقد اكتنفني أبواي عن يميني وشمالي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا عائشة إن كنت قارفت سوءًا، أو ظلمت، فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده.
قالت: وقد جاءت إمرأة من الأنصار فهي جالسة بالباب فقلت: ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئًا، فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت إلى أبي فقلت: أجبه قال: ماذا أقول؟ فالتفت إلى أمي فقلت: أجيبيه قالت: أقول ماذا؟ فلما لم يجيباه تشهدت، فحمدت الله وأثنيت عليه، ثم قلت: أما بعد- فوالله- لئن قلت لكم أني لم أفعل- والله يشهد أني لصادقة- ما ذاك بنافعي عندكم، وقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم. وإن قلت: إني فعلت- والله يعلم أني لم أفعل- لتقولن قد باءت به على نفسها وأني- والله- لا أجد لي ولكم مثلًا. والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه إلا أبا يوسف حين قال {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18].
وأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ساعته فسكتنا، فرفع عنه. وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول: «ابشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك» قالت: وقد كنت أشد مما كنت غضبًا فقال لي أبواي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمده، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي. لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه، وكانت عائشة تقول: أما زينب بنت جحش فعصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرًا، وأما أختها حمنة، فهلكت فيمن هلك، وكان الذي تكلم فيها مسطح، وحسان بن ثابت، والمنافق عبدالله بن أبي، وهو الذي كان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي كان تولى كبره منهم، هو وحمنة قالت: فحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا، فأنزل الله.
{ولا يأتل أولوا الفضل منكم} [النور: 22].. إلى آخر الآية. يعني أبا بكر. {والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين} يعني مسطحًا. إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} قال أبو بكر: بلى والله إنا نحب أن يغفر الله لنا، وعاد له كما كان يصنع.
وأخرج أحمد والبخاري وسعيد بن منصور وابن منذر وابن مردويه عن أم رومان قالت: بينا أنا عند عائشة، إذا دخلت عليها امرأة فقالت: فعل الله بابنها وفعل فقالت عائشة: ولم؟ قالت: إنه كان فيمن حدث الحديث قالت عائشة: وأي حديث؟ قالت: كذا وكذا قلت: وقد بلغ ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم.. قلت: وأبا بكر؟ قالت: نعم.. فخرت عائشة مغشيًا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض، فقمت فزبرتها، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما شأن هذه؟ قلت: يا رسول الله أخذتها حمى بنافض قال: فلعله من حديث تحدث به.
قالت واستوت عائشة قاعدة فقالت: والله لئن حلفت لا تصدقوني. ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني، فمثلى ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه، {والله المستعان على ما تصفون} وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عذرها، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر فدخل فقال: يا عائشة إن الله قد أنزل عذرك فقالت: بحمد الله لا بحمدك فقال لها أبو بكر: أتقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالت نعم.
قالت: وكان فيمن حدث الحديث رجل كان يعوله أبو بكر، فحلف أبو بكر أن لا يصلح، فأنزل الله {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} إلى آخر الآية قال أبو بكر: بلى.. فوصله.
وأخرج البزار وابن مردويه بسند حسن عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق، فلما كان في جوف الليل انطلقت عائشة لحاجة فانحلت قلادتها، فذهبت في طلبها، وكان مسطح يتيمًا لأبي بكر وفي عياله، فلما رجعت عائشة لم تَرَ العسكر، وكان صفوان بن المعطل السلمي يتخلف عن الناس، فيصيب القدح والجراب والاداوة فيحمله، فنظر فإذا عائشة، فغطى وجهه عنها ثم أدنى بعيره منها، فانتهى إلى العسكر فقالوا قولًا؛ وقالوا فيه قال: ثم ذكر الحديث حتى انتهى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء، فيقوم على الباب فيقول: «كيف تيكم؟» حتى جاء يومًا فقال: ابشري يا عائشة قد أنزل الله عذرك فقالت: بحمد الله لا بحمدك وأنزل في ذلك عشر آيات {إن الذين جاءوا بالإِفك عصبة منكم} فحد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطحًا، وحمنة، وحسان.
وأخرج ابن مردويه بسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر جاء ببعض نسائه. وسافر بعائشة وكان لها هودج، وكان الهودج له رجال يحملونه. ويضعونه، فعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرجت عائشة للحاجة فباعدت، فلم يعلم بها، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم والناس قد ارتحلوا، وجاء الذين يحملون الهودج، فحملوه فلم يعلموا إلا أنها فيه، فساروا، وأقبلت عائشة فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم والناس قد ارتحلوا، فجلست مكانها، فاستيقظ رجل من الأنصار يقال له صفوان بن المعطل، وكان لا يقرب النساء، فتقرب منها ومعه بعير له، فلما رآها وكان قد عرفها وهي صغيرة قال: أم المؤمنين! ولوى وجهه، وحملها ثم أخذ بخطام الجمل، وأقبل يقوده حتى لحق الناس.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد نزل وفقد عائشة، فأكثروا القول وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فشق عليه حتى اعتزلها، واستشار فيها زيد بن ثابت وغيره فقال: يا رسول الله دعها لعل الله أن يحدث أمره فيها فقال علي بن أبي طالب: النساء كثير. وخرجت عائشة ليلة تمشي في نساء فعثرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح قالت عائشة: بئس ما قلت فقالت: إنك لا تدري ما يقول فأخبريها. فسقطت عائشة مغشيًا عليها، ثم أنزل الله {إن الذين جاءُوا بالإِفك} الآيات.
وكان أبو بكر يعطي مسطحًا ويصله ويبره، فحلف أبو بكر لا يعطيه، فنزل {ولا يأتل أولوا الفضل منكم} فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيها ويبشرها، فجاء أبو بكر فأخبرها بعذرها، وما أنزل الله فيها فقالت: بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد صاحبك.